إخفاقات أمنية في ألمانيا- تجاهل تحذيرات السعودية وتصاعد اليمين المتطرف.
المؤلف: رامي الخليفة العلي10.25.2025

شهدت مدينة ماغديبورغ الهادئة في ألمانيا فاجعة مروعة حينما تحول سوق عيد الميلاد المبهج إلى مسرح لجريمة بشعة، حيث أزهقت أرواح بريئة وأصيب العشرات بإصابات بليغة ومختلفة. هذه الكارثة المأساوية أعادت إلى الأذهان بقوة ضرورة إعادة تقييم وتطوير الاستراتيجيات الأمنية المتبعة لمواجهة الأخطار الإرهابية المحدقة، لا سيما في ظل ما أثير من جدل حول تجاهل السلطات الألمانية لتحذيرات مسبقة قدمتها المملكة العربية السعودية بشأن ذلك الشخص المتورط. تلك التحذيرات، التي كانت تتضمن إشارات واضحة جلية إلى اعتناق هذا الشخص لأفكار متطرفة بغيضة معادية للإسلام، لم تجد الآذان الصاغية والاستجابة الفعالة من قبل الأجهزة الأمنية الألمانية المختصة، الأمر الذي يثير تساؤلات جوهرية وعميقة حول مدى كفاءة وفعالية آليات تحليل المعلومات الاستخباراتية وكيفية التعامل السليم معها.
يبدو جليًا أن هذا الإخفاق المؤسف في التعامل الجدي مع التحذيرات السعودية ينبع من خليط معقد من النظرة المتعالية تجاه المعلومات القادمة من دول الجنوب، بالإضافة إلى القوالب النمطية العميقة الجذور والمتأصلة في العقلية الأمنية الغربية. هذه العقلية تركز بشكل مبالغ فيه على التهديدات التي تربطها بالإرهاب الإسلامي الراديكالي العنيف، متجاهلة بشكل خطير التحولات الجلية والواضحة في طبيعة التهديدات الأمنية، بما في ذلك الصعود الملحوظ والمدمر للجماعات اليمينية المتطرفة.
فخلال العقد الماضي، أصبحت هذه الجماعات اليمينية المتطرفة تشكل لاعباً رئيساً ومهماً في المشهد السياسي العنيف، حيث قامت بتنفيذ هجمات مروعة ومفزعة، مثل تلك التي وقعت في نيوزيلندا وفي مدينة هاناو الألمانية عام ٢٠٢٠، مما يبرهن ويثبت على قدرتها المتزايدة على التأثير السلبي على الاستقرار المجتمعي وزعزعة أركانه. إن تصاعد الموجة اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء أوروبا لا يقتصر فقط على الأحزاب السياسية المعروفة بأجنداتها المتشددة والمتطرفة، بل يمتد ليشمل حركات عنيفة متطرفة تتبنى خطاباً صريحاً وواضحاً يدعو لاستخدام السلاح والعنف لتحقيق أهدافها المشبوهة. هذه الظاهرة المقلقة تشكل تهديداً حقيقياً للنسيج الاجتماعي الأوروبي المتماسك وتفرض تحديات جديدة ومعقدة على نموذج الدولة الأوروبية الحديثة المبنية على قيم الديمقراطية والعدالة والانفتاح والتسامح.
والجدير بالذكر والتنويه أن هذه الحركات المتطرفة تستغل الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتأزمة والسائدة لتوسيع قاعدتها الشعبية وكسب المزيد من التأييد، ما يزيد ويعزز من خطرها الداهم على الاستقرار والسلم المجتمعي. إضافة إلى ذلك، تلعب الديناميكيات الدولية المعقدة والصراعات الأيديولوجية المتفاقمة دوراً كبيراً في تغذية وتعزيز هذه التوجهات العنيفة وغير المسؤولة. إن التوترات السياسية الحادة والأزمات الاقتصادية المتتالية، التي غالباً ما تتشابك وتتداخل مع الأيديولوجيات المتطرفة الهدامة، تساهم بشكل كبير في خلق بيئات خصبة وملائمة لانتشار العنف والتطرف. ومن هنا تنبع وتتجلى أهمية تبني الأجهزة الأمنية الأوروبية لإستراتيجيات جديدة وشاملة ومتكاملة تتجاوز النظرة النمطية التقليدية للتهديدات الإرهابية. ينبغي أن يشمل هذا التوجه الجديد التعاون الوثيق والمثمر مع الدول التي تمتلك الخبرة العميقة والتجربة الواسعة في مجال مكافحة الإرهاب، مثل المملكة العربية السعودية، التي تمتلك سجلاً حافلاً وناجحاً في التعامل مع هذه الظواهر الخطيرة.
إن حادثة ماغديبورغ المأساوية لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها حدثاً عابراً ومعزولاً، بل هي بمثابة مؤشر قوي وواضح على ضرورة إجراء مراجعة شاملة وجذرية للسياسات الأمنية الأوروبية المتبعة وإعادة النظر فيها من جذورها. فتجاهل التحذيرات المسبقة ليس مجرد تقصير وإهمال، بل هو عرض لخلل أعمق وأخطر في النظام الأمني برمته يحتاج إلى معالجة جذرية وفورية. فالتعاون الأمني الدولي والانفتاح على مختلف مصادر المعلومات، بغض النظر عن خلفياتها الجغرافية، هما عنصران أساسيان لضمان مواجهة فعّالة للتهديدات المتنوعة والمختلفة. ومن الضروري والملح أن تتبنى أوروبا نهجاً متكاملاً وشاملاً يأخذ بعين الاعتبار جميع أنواع التهديدات دون أي تحيز أو تركيز مفرط على نمط معين. هذا النهج الشامل والمتكامل يمكن أن يسهم بشكل فعال في الحفاظ على أمن المجتمعات الأوروبية المتنوعة وحماية نموذجها الديمقراطي الراسخ من التآكل والانحدار.
